مسؤول سابق يكشف تفاصيل خطيرة حول الفساد بديوان الخدمات الجامعية!!
العنوان الفرعي للمقال الرئيسي
ديزاد نيوز
نشر الأستاذ والاكاديمي أحمد عظيمي عبر صفحته على موقع "فيسبوك" مقالا مأخوذ من الفصل الثاني من كتابه "شاهد على خيانة وطن" الصادر عن دار الوطن في شهر أوت الماضي.
ويتحدث المقال عن الفساد الذي عايشه داخل ديوان الخدمات الجامعية حيث تولى إدارة إحدى مديرياته من جانفي 2004 إلى جوان 2004.
وفيما يلي نص المقال:
مع نهاية سنة 2003، تلقيت، في بيتي، زيارة صديق قديم جاء ليخبرني بأنه عين مديرا عاما للديوان
الوطني للخدمات الجامعية وأنه سينصب يوم غد من طرف وزير التعليم العالي والبحث العلمي.
كان ذلك الصديق هو الأستاذ لخضر بلعز، الذي كنت أعرفه منذ مرحلتي التعليم المتوسط والثانوي، ثم افترقنا، بعد الباكالوريا، لنلتقي ثانية وبعد مرور ثلاثين سنة، بجامعة غرونوبل، سنة 1992، حيث كان كلانا يحضر شهادة الدكتوراه، وقد توطدت علاقتنا، منذ ذلك الوقت.
بعد تنصيبه ومباشرته العمل بديوان الخدمات الجامعية ألح علي أن أتولى إدارة إحدى مديريات الديوان، خاصة وأني بدون عمل.
لم أكن أعرف أي شيء عن هذا الديوان، فقد غادرت الجامعة الجزائرية سنة 1978 ولم أعد إليها أبدا، لذلك اعتقدت بأن تعيين صديقي على رأس الديوان سيكون فأل خير عليه، كما لم أعارض كثيرا مسألة انضمامي للعمل معه رغم تفضيلي للتدريس بالجامعة.
التحقت بالديوان في 10 يناير (جانفي) 2004، وغادرته في شهر جوان من نفس السنة؛ كانت فترة خمسة أشهر أعتبرها، لحد الآن، من أسوأ أشهر حياتي؛ فقد اطلعت خلالها على كل أنواع الفساد المستشري في الإدارة الجزائرية وعلى كل المستويات. (..)
بدأت أكتشف، منذ الأسابيع الأولى، بأن الأمر ليس أبدا كما تصورته، بل لاحظت بأن المقاومة للتغيير ليست فقط كبيرة بل حتى خطيرة؛ وأن لا أحد تقريبا على استعداد لمساعدة المدير العام الجديد في تحقيق ما كان يصبو إليه من تنظيف للفساد وتحكم في تسيير الميزانية المخصصة وتحسين لأوضاع الطلبة. (..)
كانت ميزانية الديوان في حدود الأربعة آلاف مليار سنتيم وهو مبلغ جد معتبر، في ذلك الوقت، ومع ذلك فأوضاع الطلبة كانت أكثر من مزرية؛ فزياراتنا للعديد من الإقامات الجامعية جعلتنا نطلع على حجم التأخر في إنجاز الهياكل القاعدية أمام الارتفاع المتزايد لعدد الطلبة كل سنة، بحيث وصل عددهم في الغرفة الواحدة إلى ستة طلبة في بعض الإقامات، كما أن كمية الأكل كانت جد قليلة بسبب التسربات.
إضافة إلى ذلك، وجدنا بأن بعض الإقامات تحولت إلى أوكار للفساد، وأخرى يقيم بها العشرات ممن لا علاقة لهم بالتعليم العالي، كما أن بعض الغرف تم الاستيلاء عليها من طرف عمال جاؤوا بعائلاتهم لإسكانهم وسط الطلبة. (..)
في تحليلي للوضع، أدركت بأن مرحلة الإرهاب كانت كارثية على قطاع التعليم العالي، فقد كان هدف كل المسؤولين الذين تداولوا على الوزارة هو الحفاظ على الجامعة من الانهيار ووقوعها بين أيدي المتعاطفين مع المجموعات الإرهابية، مما جعلهم يغضون الطرف عن كل الأخطاء التي كانت ترتكب في مجالات التسيير وسيطرة أطراف معينة على مصدر القرار وتحويله لخدمة المصالح الخاصة.
إنه ما حدث بالضبط مع التنظيمات الطلابية التي تحول بعضها إلى لوبيات تستنزف الملايير من أموال الخدمات الجامعية، ووصل أمر بعض المنتسبين إليها حد ابتزاز مديري بعض الإقامات الجامعية؛ وقد نبه المدير العام للديوان، من خلال تقرير مرفوع إلى السيد وزير التعليم العالي، إلى خطورة الوضع مؤكدا، بالوثائق، بأن هذه التنظيمات استنزفت، خلال سنة دراسية واحدة، ما قيمته مائة مليار سنتيم؛ وقد تعرض وزير التعليم العالي لأمر هذا النزيف في المال العام، بعد أيام قليلة أثناء ندوة صحفية، لكنه خفض المبلغ إلى ستين مليار عوض مائة مليار. (..)
المؤكد أن بعض قيادات هذه التنظيمات جمعت أموالا طائلة من الخدمات الجامعية، وهي الأموال التي كان من المفروض أنها موجهة لتحسين معيشة وأوضاع الطلبة. أذكر، في هذا المنوال، أني كنت، في إحدى المرات، أبحث عن المدير العام لأمر ما، فأخبرتني الكاتبة بأنه غير موجود ولما نزلت إلى الطابق الأرضي لمحت سيارة من نوع 406 بنفس لون سيارة المصلحة التي يستعملها المدير العام،ولما سألت البواب إن كان هذا الأخير (المدير العام) قد وصل كان رده بالنفي، ولما سألته عن السيارة أشار إلى صاحبها الذي كان يقف على الرصيف المقابل والذي لم يكن سوى رئيس إحدى التنظيمات القوية؛ فخرجت متوجها نحوه وبعد التحية سألته هذا السؤال بالضبط:
- "قل لي بربك، كيف يحدث، في بلد فخامته، أني أنا الذي اشتغلت لثلاثين سنة لا أملك سوى تلك السييلو هيونداي سنة 1998، وأنت الذي لم تعمل ولو ليوم واحد طوال حياتك تملك سيارة من نوع بيجو 406 سنة 2002؟".
ابتسم ذلك الشاب ولم يجب بل توجه نحو سيارته البيجو 406 فركبها وغادر.
لما سد عليهم المدير العام جل مصادر التمويل، وبدأ يراقب كيفية صرف ميزانيات الإقامات وإنهاء مهام بعض مديريها ورؤساء مصالحها، تحول مقر الديوان الوطني للخدمات الجامعية إلى بؤرة للفوضى والعنف، بحيث تعددت الاحتجاجات والتجمعات التي كانت تبدأ في الإقامات، لأسباب وحجج مختلقة، ثم تنتقل إلى مقر الديوان ببن عكنون، حيث يكسرون الأبواب ويعتدون على الموظفين (..)
في نفس الوقت، كانت الوصاية تمارس ضغوطا كبيرة على المدير العام لكي "يتساهل" مع التنظيمات وأن يستمر في تمويل بعض نشاطاتها؛ وكان موقفه من ذلك جد واضح: لا يوجد أي نص قانوني يقول بتكلف الديوان بتغطية نشاطات الجمعيات الطلابية وبالتالي فكل تمويل لهذه النشاطات فهو يتم خارج إطار القانون.
موقف الوصاية كان يبرر بثلاثة أسباب؛ يتعلق أولها، بكون موقف المدير العام المتشدد خلق حالة عدم استقرار بالقطاع ودفع نحو تعفن الوضع بتوسع رقعة احتجاجات الطلبة ومن بعدهم العمال (أنظر أسفله)، لتمس كل جهات الوطن؛ في حين أن السبب الثاني، كان سياسيا بامتياز، حيث أن تلك الفترة كانت فترة الانتخابات الرئاسية (نهاية العهدة الأولى لبوتفليقة)، وكانت السلطة تحتاج لجموع الطلبة لتصدر من خلال تنظيماتهم رسائل التأييد وتملأ بهم القاعات التي كانت تنظم فيها مهرجانات التأييد للرئيس المرشح؛ أما السبب الثالث، فكان يتعلق بموقف ومصير وزير القطاع. (..)
لم تكن مشاكل الخدمات الجامعية صادرة عن التنظيمات الطلابية وحدها، فحتى العمال المنضوون تحت لواء الاتحاد العام للعمال الجزائريين كانوا يساهمون في تعفن الوضع بطريقتهم، فهؤلاء كانوا يؤثرون في عمال الديوان ومنهم أكثر من عشرة آلاف عامل مؤقت، أي غير مرسم؛ وكانت تكفي تعليمة أو توجيه من النقابة لتشل كل النشاطات على مستوى كل المطاعم الجامعية مما يؤدي بدوره إلى احتجاج الطلبة.
كان للمنتمين للنقابة الكثير من المصالح، كما كان بعض النقابيين يتمتعون، مثلهم مثل بعض الطلبة المنتمين للجمعيات الطلابية، بجزء من السلطة داخل هياكل الديوان وكانوا يستطيعون تعيين وإنهاء مهام من لا يساعدهم، خاصة على رأس الإقامات الجامعية، بالضغط على المدراء العامين وتهديدهم بتنظيم الإضرابات وحتى بابتزازهم وتهديدهم بنشر ما يملكون من معلومات عن سوء التسيير في القطاع. (..)
ليست التنظيمات الطلابية والنقابية وحدها من كانت تعرقل كل تغيير على مستوى ديوان الخدمات الجامعية، بل هناك فئة أخرى كانت أكثر شراسة في مواجهة التغيير، وهي فئة المتعاملين مع الديوان من أصحاب رؤوس الأموال، الذين تعودوا على عقد صفقات بالملايير مع هياكله، والذين بدأ المدير العام يخطط لإزاحة الكثيرين ممن لا يحترمون العقود المبرمة بينهم وبين الإقامات الجامعية.
كان بعض رجال المال المرتبطين برجال السلطة، يسيطرون على جل الصفقات التي يعقدها الديوان ولعل صاحب حافلات نقل الطلبة، الذي كانت كل الألسن تقول بأنه يعمل لصالح الوزير الأول السابق أحمد أويحي، هو خير مثال عن قوة النفوذ الذي كان يتمتع به هؤلاء.
لما التحقت بالديوان وجدت أن ثلاث إقامات بالعاصمة (شرق، وسط وغرب) تولت، قبل مجيء السيد لخضر بلعز، التعاقد مع هذا الناقل على عدد 762 حافلة لنقل طلبة العاصمة وضواحيها، وكان ثمن الكراء يتراوح ما بين (8000) دينار و(12000) دينار للحافلة الواحدة في اليوم الواحد؛ ورغم هذا العدد الكبير من الحافلات الذي كان يساوي ثلث كل الحافلات التي تنقل المواطنين في العاصمة، إلا أن شكاوى الطلبة من انعدام خطوط نقل وسوء الخدمة وعدم ملاءمة توقيت مرور الحافلات، كانت كثيرة، فاتفقت مع المدير العام على دراسة وضعية النقل هذه وتقديم تصور في شكل خطة لتنظيم هذا القطاع.
بعد أسبوع من العمل، تمكنت من وضع خطة نقل تجعل الطالب لا ينتظر في الحافلة أكثر من عشر دقائق ليتوجه إلى أي مكان في العاصمة (مقر سكنه، الجامعة، إقامة..) وبعدد حافلات لا يتجاوز الثلاث مائة (300) حافلة فقط، مع إعادة توزيع الطلبة، مع الدخول الجامعي المقبل، على الإقامات حسب أماكن دراستهم؛ حيث لاحظت فوضى كبيرة ومتعمدة في توزيعهم، فمن يدرسون في بوزريعة يرسلونهم للسكن في الحراش أو درقانة في حين يتم إرسال من يدرسون في درقانة والحراش إلى بن عكنون وبني مسوس، وكانت خطة مقصودة من أجل الإكثار من عدد الحافلات. (..)
ما تعرضت له أعلاه هي صورة مصغرة جدا عن تحكم أخطبوط الفساد في واحدة من الإدارات الجزائرية؛ والمؤسف أن هذه الإدارة كانت مكلفة بتحسين شروط حياة الطلبة الجزائريين.
كل هذه الأحداث، جعلتني أقتنع بأني أضيع وقتي في مواجهة بعبع مستعد لكل شيء من أجل الحفاظ على مصالحه، لذلك اغتنمت فرصة وجودي بمفردي مع المدير العام، بعد عودتنا من حفل زفاف ابن أحد الأصدقاء لأقول له بأني أريد المغادرة.
كان قرار مغادرتي الديوان صدمة بالنسبة للأستاذ لخضر بلعز، لكني أفهمته بأن وضعنا نحن الاثنان يشبه وضع مجنونين يحملان الماء بالدلو من بئر عميق وينقلانه إلى بحر ملوث في محاولة لتنظيفه.
غادرت الديوان، بعد خمسة أشهر، رأيت فيها كل أنواع الفساد الذي عشش في الإدارة الجزائرية. بعد مغادرتي بوقت قصير، زوروا إمضاء المدير العام على بعض الوثائق واتهموه بعدم احترام قانون الصفقات، فبادر الوزير إلى إنهاء مهامه وتحويل الملف إلى العدالة حيث وضع تحت الرقابة القضائية وكاد يسجن لولا تدخل قوي من المجاهد سي عبد الرزاق بوحارة المعين في الثلث الرئاسي بمجلس الأمة وكان يشغل منصب نائب رئيس المجلس والذي كان يعرف جيدا سي لخضر، فاتصل بجهات نافذة أمرت بإعادة التحقيق في القضية ليصدر الحكم بالبراءة، بعد سنة كاملة من المعاناة؛ وهي المعاناة التي جعلته يتعرض لمرض عضال انتهى به إلى الوفاة، رحمه الله.
ويتحدث المقال عن الفساد الذي عايشه داخل ديوان الخدمات الجامعية حيث تولى إدارة إحدى مديرياته من جانفي 2004 إلى جوان 2004.
وفيما يلي نص المقال:
مع نهاية سنة 2003، تلقيت، في بيتي، زيارة صديق قديم جاء ليخبرني بأنه عين مديرا عاما للديوان
الوطني للخدمات الجامعية وأنه سينصب يوم غد من طرف وزير التعليم العالي والبحث العلمي.
كان ذلك الصديق هو الأستاذ لخضر بلعز، الذي كنت أعرفه منذ مرحلتي التعليم المتوسط والثانوي، ثم افترقنا، بعد الباكالوريا، لنلتقي ثانية وبعد مرور ثلاثين سنة، بجامعة غرونوبل، سنة 1992، حيث كان كلانا يحضر شهادة الدكتوراه، وقد توطدت علاقتنا، منذ ذلك الوقت.
بعد تنصيبه ومباشرته العمل بديوان الخدمات الجامعية ألح علي أن أتولى إدارة إحدى مديريات الديوان، خاصة وأني بدون عمل.
لم أكن أعرف أي شيء عن هذا الديوان، فقد غادرت الجامعة الجزائرية سنة 1978 ولم أعد إليها أبدا، لذلك اعتقدت بأن تعيين صديقي على رأس الديوان سيكون فأل خير عليه، كما لم أعارض كثيرا مسألة انضمامي للعمل معه رغم تفضيلي للتدريس بالجامعة.
التحقت بالديوان في 10 يناير (جانفي) 2004، وغادرته في شهر جوان من نفس السنة؛ كانت فترة خمسة أشهر أعتبرها، لحد الآن، من أسوأ أشهر حياتي؛ فقد اطلعت خلالها على كل أنواع الفساد المستشري في الإدارة الجزائرية وعلى كل المستويات. (..)
بدأت أكتشف، منذ الأسابيع الأولى، بأن الأمر ليس أبدا كما تصورته، بل لاحظت بأن المقاومة للتغيير ليست فقط كبيرة بل حتى خطيرة؛ وأن لا أحد تقريبا على استعداد لمساعدة المدير العام الجديد في تحقيق ما كان يصبو إليه من تنظيف للفساد وتحكم في تسيير الميزانية المخصصة وتحسين لأوضاع الطلبة. (..)
كانت ميزانية الديوان في حدود الأربعة آلاف مليار سنتيم وهو مبلغ جد معتبر، في ذلك الوقت، ومع ذلك فأوضاع الطلبة كانت أكثر من مزرية؛ فزياراتنا للعديد من الإقامات الجامعية جعلتنا نطلع على حجم التأخر في إنجاز الهياكل القاعدية أمام الارتفاع المتزايد لعدد الطلبة كل سنة، بحيث وصل عددهم في الغرفة الواحدة إلى ستة طلبة في بعض الإقامات، كما أن كمية الأكل كانت جد قليلة بسبب التسربات.
إضافة إلى ذلك، وجدنا بأن بعض الإقامات تحولت إلى أوكار للفساد، وأخرى يقيم بها العشرات ممن لا علاقة لهم بالتعليم العالي، كما أن بعض الغرف تم الاستيلاء عليها من طرف عمال جاؤوا بعائلاتهم لإسكانهم وسط الطلبة. (..)
في تحليلي للوضع، أدركت بأن مرحلة الإرهاب كانت كارثية على قطاع التعليم العالي، فقد كان هدف كل المسؤولين الذين تداولوا على الوزارة هو الحفاظ على الجامعة من الانهيار ووقوعها بين أيدي المتعاطفين مع المجموعات الإرهابية، مما جعلهم يغضون الطرف عن كل الأخطاء التي كانت ترتكب في مجالات التسيير وسيطرة أطراف معينة على مصدر القرار وتحويله لخدمة المصالح الخاصة.
إنه ما حدث بالضبط مع التنظيمات الطلابية التي تحول بعضها إلى لوبيات تستنزف الملايير من أموال الخدمات الجامعية، ووصل أمر بعض المنتسبين إليها حد ابتزاز مديري بعض الإقامات الجامعية؛ وقد نبه المدير العام للديوان، من خلال تقرير مرفوع إلى السيد وزير التعليم العالي، إلى خطورة الوضع مؤكدا، بالوثائق، بأن هذه التنظيمات استنزفت، خلال سنة دراسية واحدة، ما قيمته مائة مليار سنتيم؛ وقد تعرض وزير التعليم العالي لأمر هذا النزيف في المال العام، بعد أيام قليلة أثناء ندوة صحفية، لكنه خفض المبلغ إلى ستين مليار عوض مائة مليار. (..)
المؤكد أن بعض قيادات هذه التنظيمات جمعت أموالا طائلة من الخدمات الجامعية، وهي الأموال التي كان من المفروض أنها موجهة لتحسين معيشة وأوضاع الطلبة. أذكر، في هذا المنوال، أني كنت، في إحدى المرات، أبحث عن المدير العام لأمر ما، فأخبرتني الكاتبة بأنه غير موجود ولما نزلت إلى الطابق الأرضي لمحت سيارة من نوع 406 بنفس لون سيارة المصلحة التي يستعملها المدير العام،ولما سألت البواب إن كان هذا الأخير (المدير العام) قد وصل كان رده بالنفي، ولما سألته عن السيارة أشار إلى صاحبها الذي كان يقف على الرصيف المقابل والذي لم يكن سوى رئيس إحدى التنظيمات القوية؛ فخرجت متوجها نحوه وبعد التحية سألته هذا السؤال بالضبط:
- "قل لي بربك، كيف يحدث، في بلد فخامته، أني أنا الذي اشتغلت لثلاثين سنة لا أملك سوى تلك السييلو هيونداي سنة 1998، وأنت الذي لم تعمل ولو ليوم واحد طوال حياتك تملك سيارة من نوع بيجو 406 سنة 2002؟".
ابتسم ذلك الشاب ولم يجب بل توجه نحو سيارته البيجو 406 فركبها وغادر.
لما سد عليهم المدير العام جل مصادر التمويل، وبدأ يراقب كيفية صرف ميزانيات الإقامات وإنهاء مهام بعض مديريها ورؤساء مصالحها، تحول مقر الديوان الوطني للخدمات الجامعية إلى بؤرة للفوضى والعنف، بحيث تعددت الاحتجاجات والتجمعات التي كانت تبدأ في الإقامات، لأسباب وحجج مختلقة، ثم تنتقل إلى مقر الديوان ببن عكنون، حيث يكسرون الأبواب ويعتدون على الموظفين (..)
في نفس الوقت، كانت الوصاية تمارس ضغوطا كبيرة على المدير العام لكي "يتساهل" مع التنظيمات وأن يستمر في تمويل بعض نشاطاتها؛ وكان موقفه من ذلك جد واضح: لا يوجد أي نص قانوني يقول بتكلف الديوان بتغطية نشاطات الجمعيات الطلابية وبالتالي فكل تمويل لهذه النشاطات فهو يتم خارج إطار القانون.
موقف الوصاية كان يبرر بثلاثة أسباب؛ يتعلق أولها، بكون موقف المدير العام المتشدد خلق حالة عدم استقرار بالقطاع ودفع نحو تعفن الوضع بتوسع رقعة احتجاجات الطلبة ومن بعدهم العمال (أنظر أسفله)، لتمس كل جهات الوطن؛ في حين أن السبب الثاني، كان سياسيا بامتياز، حيث أن تلك الفترة كانت فترة الانتخابات الرئاسية (نهاية العهدة الأولى لبوتفليقة)، وكانت السلطة تحتاج لجموع الطلبة لتصدر من خلال تنظيماتهم رسائل التأييد وتملأ بهم القاعات التي كانت تنظم فيها مهرجانات التأييد للرئيس المرشح؛ أما السبب الثالث، فكان يتعلق بموقف ومصير وزير القطاع. (..)
لم تكن مشاكل الخدمات الجامعية صادرة عن التنظيمات الطلابية وحدها، فحتى العمال المنضوون تحت لواء الاتحاد العام للعمال الجزائريين كانوا يساهمون في تعفن الوضع بطريقتهم، فهؤلاء كانوا يؤثرون في عمال الديوان ومنهم أكثر من عشرة آلاف عامل مؤقت، أي غير مرسم؛ وكانت تكفي تعليمة أو توجيه من النقابة لتشل كل النشاطات على مستوى كل المطاعم الجامعية مما يؤدي بدوره إلى احتجاج الطلبة.
كان للمنتمين للنقابة الكثير من المصالح، كما كان بعض النقابيين يتمتعون، مثلهم مثل بعض الطلبة المنتمين للجمعيات الطلابية، بجزء من السلطة داخل هياكل الديوان وكانوا يستطيعون تعيين وإنهاء مهام من لا يساعدهم، خاصة على رأس الإقامات الجامعية، بالضغط على المدراء العامين وتهديدهم بتنظيم الإضرابات وحتى بابتزازهم وتهديدهم بنشر ما يملكون من معلومات عن سوء التسيير في القطاع. (..)
ليست التنظيمات الطلابية والنقابية وحدها من كانت تعرقل كل تغيير على مستوى ديوان الخدمات الجامعية، بل هناك فئة أخرى كانت أكثر شراسة في مواجهة التغيير، وهي فئة المتعاملين مع الديوان من أصحاب رؤوس الأموال، الذين تعودوا على عقد صفقات بالملايير مع هياكله، والذين بدأ المدير العام يخطط لإزاحة الكثيرين ممن لا يحترمون العقود المبرمة بينهم وبين الإقامات الجامعية.
كان بعض رجال المال المرتبطين برجال السلطة، يسيطرون على جل الصفقات التي يعقدها الديوان ولعل صاحب حافلات نقل الطلبة، الذي كانت كل الألسن تقول بأنه يعمل لصالح الوزير الأول السابق أحمد أويحي، هو خير مثال عن قوة النفوذ الذي كان يتمتع به هؤلاء.
لما التحقت بالديوان وجدت أن ثلاث إقامات بالعاصمة (شرق، وسط وغرب) تولت، قبل مجيء السيد لخضر بلعز، التعاقد مع هذا الناقل على عدد 762 حافلة لنقل طلبة العاصمة وضواحيها، وكان ثمن الكراء يتراوح ما بين (8000) دينار و(12000) دينار للحافلة الواحدة في اليوم الواحد؛ ورغم هذا العدد الكبير من الحافلات الذي كان يساوي ثلث كل الحافلات التي تنقل المواطنين في العاصمة، إلا أن شكاوى الطلبة من انعدام خطوط نقل وسوء الخدمة وعدم ملاءمة توقيت مرور الحافلات، كانت كثيرة، فاتفقت مع المدير العام على دراسة وضعية النقل هذه وتقديم تصور في شكل خطة لتنظيم هذا القطاع.
بعد أسبوع من العمل، تمكنت من وضع خطة نقل تجعل الطالب لا ينتظر في الحافلة أكثر من عشر دقائق ليتوجه إلى أي مكان في العاصمة (مقر سكنه، الجامعة، إقامة..) وبعدد حافلات لا يتجاوز الثلاث مائة (300) حافلة فقط، مع إعادة توزيع الطلبة، مع الدخول الجامعي المقبل، على الإقامات حسب أماكن دراستهم؛ حيث لاحظت فوضى كبيرة ومتعمدة في توزيعهم، فمن يدرسون في بوزريعة يرسلونهم للسكن في الحراش أو درقانة في حين يتم إرسال من يدرسون في درقانة والحراش إلى بن عكنون وبني مسوس، وكانت خطة مقصودة من أجل الإكثار من عدد الحافلات. (..)
ما تعرضت له أعلاه هي صورة مصغرة جدا عن تحكم أخطبوط الفساد في واحدة من الإدارات الجزائرية؛ والمؤسف أن هذه الإدارة كانت مكلفة بتحسين شروط حياة الطلبة الجزائريين.
كل هذه الأحداث، جعلتني أقتنع بأني أضيع وقتي في مواجهة بعبع مستعد لكل شيء من أجل الحفاظ على مصالحه، لذلك اغتنمت فرصة وجودي بمفردي مع المدير العام، بعد عودتنا من حفل زفاف ابن أحد الأصدقاء لأقول له بأني أريد المغادرة.
كان قرار مغادرتي الديوان صدمة بالنسبة للأستاذ لخضر بلعز، لكني أفهمته بأن وضعنا نحن الاثنان يشبه وضع مجنونين يحملان الماء بالدلو من بئر عميق وينقلانه إلى بحر ملوث في محاولة لتنظيفه.
غادرت الديوان، بعد خمسة أشهر، رأيت فيها كل أنواع الفساد الذي عشش في الإدارة الجزائرية. بعد مغادرتي بوقت قصير، زوروا إمضاء المدير العام على بعض الوثائق واتهموه بعدم احترام قانون الصفقات، فبادر الوزير إلى إنهاء مهامه وتحويل الملف إلى العدالة حيث وضع تحت الرقابة القضائية وكاد يسجن لولا تدخل قوي من المجاهد سي عبد الرزاق بوحارة المعين في الثلث الرئاسي بمجلس الأمة وكان يشغل منصب نائب رئيس المجلس والذي كان يعرف جيدا سي لخضر، فاتصل بجهات نافذة أمرت بإعادة التحقيق في القضية ليصدر الحكم بالبراءة، بعد سنة كاملة من المعاناة؛ وهي المعاناة التي جعلته يتعرض لمرض عضال انتهى به إلى الوفاة، رحمه الله.